بغية الطالب في ترجمة ومناقب
الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وحبيب رب العالمين من أرسله ربه رحمة للعالمين ومن هو شفيع المذنبين يوم الدين، وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد فيقول عز وجل: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا} [سورة الأحزاب/ءاية 32].
وأما بعد فهذا ذكر سيرة عطرة من سيرة أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين وأمراء المؤمنين ورثة خير المرسلين، سيرة سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كانت مدة خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، من سنة خمس وثلاثين، من يوم وفاة عثمان رضي الله عنه.
- نسبه وكنيته:
هو سيدنا الإمام أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وأبو السبطين الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، وأول من أسلم من الصبيان علم من أعلام الدين ومن أبرز المجاهدين والشجعان وقدوة للزاهدين، ومن أشهر الخطباء والمفوهين، والعلماء العاملين، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وُلد قبل البعثة بعشر سنين، وتربى في حجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفي بيته، وكان يلقب حيدرة وقيل: إن أمه هي التي سمته حيدرة.
وأما تسميته بأبي تراب، فإن رسول الله صلى الله عليه هو الذي سمّاه أبا تراب ولهذه التسمية قصة وهي أنّ الرسول دخل على فاطمة فسألها عن علي: "أين ابن عمِك"، قالت: هو ذاك مضطجع في المسجد، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول: "اجلس أبا تراب"، فوالله ما سمّاه به إلا رسول الله، ووالله ما كان له اسم أحب إليه منه.
وفي رواية أخرى أنه في غزوة العُشيرة سماه الرسول أبا تراب، وكان خارج المسجد، وقال له: "قم أبا تراب، ألا أخبرك بأشقى الناس أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك على هذا (يعني قرنه) فيخضب هذه منها (وأخذ بلحيته)".
كفله النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه لأن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب كثير العيال قليل المال فأخذ الرسول عليا وضمّه إليه، وأخذ العباس جعفرًا وضمّه إليه تخفيفًا عن أبي طالب.
- وصفه:
كان رضي الله عنه رجلاً رَبْعةً أميل إلى القِصر، ءادم اللون، عريض اللحية أبيضها، لا يخضبها، وقد خضبها مرة بالحنّاء ثم تركها، أصلع على رأسه زغيبات، ضخم البطن، ضخم مُشاشة المنكب، ضخم عضلة الذراع، دقيق مستدقها، حسن الوجه، ضخم عضلة الساق دقيق مستدقها، عظيم العينين أدعجهما ورؤي على عينيه أثر الكحل، شثن الكفين، كثير الشعر، ضحوك السن من أشجع الصحابة وأعلمهم قضاء، ومن أزهدهم في الدنيا، لم يسجد لصنم قط، إذا مشى تكفأ، شديد الساعد واليد، ثبت الجنان، ما صارع أحدًا إلا صرعه، شجاعًا منصورًا على من لاقاه.
وقد روي أن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليا، فقال: أعفني, قال: لتصِفَنه قال: إذ لا بد من وصفه، كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها , ويأنس إلى الليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ونحن من تقريبه إيّانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضًا على لحيته يتململ تململ السقيم ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غري غيري، إليّ تعرضت أم إليّ تشوفت؟ هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، ءاه ءاه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها.
- لباسه:
عن خالد بن أمية قال: رأيت عليا رضي الله عنه وقد لحق إزاره بركبتيه, وعن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عليا عليه قميص رازيّ إذا مدّ كمه بلغ الظفر فإذا أرخاه بلغ نصف ساعده.
وكان يلبس إزارًا مرفوعًا، فقيل له، فقال: يُخشّعُ القلب ويقتدي به المؤمن.
ورؤي رضي الله عنه وعليه إزار إلى نصف الساق ورداء مشمّر قريب منه ومعه دِرّة له يمشي بها في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم.
وكان يتعصّب بعصابة سوداء, ويلبس عمامة سوداء، وقبله حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام لبس يوم فتح مكة عمامة سوداء أرخى عذبتها بين كتفيه الشريفين.
وكان سيدنا علي رضي الله عنه يتختم في يساره، وكان نقش خاتمه "محمد رسول الله" ونقش على خاتمه أيضًا: "لله الملك".
- زهده وتقشفه وورعه:
روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: ق-ـال رس-ول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "إنّ الله قد زيّنك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب منها هي زينة الأبرار عند الله، الزهد في الدنيا فجعلك لا ترزأ من الدنيا - أي لا يصيب من الدنيا- ولا ترزأ الدنيا منك شيئًا، ووصب لك المساكين - أي أدام لك المساكين- فجعلك ترضى بهم أتباعًا ويرضون بك إمامًا".
وجاءه ابن التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء. فقال: الله أكبر فقام متوكئًا على ابن التياح حتى قام على بيت المال وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غُري غيري، هاء وهاء، حتى ما بقي فيه دينار ولا درهم. ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين.
وروى أنه دخل مرة بيت المال فرأى فيه شيئا فقال: لا أرى هذا هنا وبالناس حاجة إليه، فأمر به فقُسّم، وأمر بالبيت فكنس، ونَضح فصلى فيه أو نام فيه.
وصعد رضي الله عنه يومًا المنبر وقال: من يشتري مني سيفي هذا، فلو كان عندي ثمن إزار ما بعته، فقام إليه رجل وقال: أسلفك ثمن إزار.
واشترى مرة تمرًا بدرهم فحمله في ملحفته فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك فقال: أبو العيال أحق بحمله.
وعوتب في لباسه فقال: مالكم وللباسي هذا هو أبعد من الكبر وأجدرأن يقتدي به المسلم.
-